هل يساهم الفن الراقي في تقريب الشعوب جريدة وطني رؤية تحليلة ماري منصور
عندما تمتزج المعاصرة بسحر التاريخ الفلسفي وعبق الزمان المقدس فتقدم لنا رؤية إنسانية رائعة للآلام النفسية وهي تجتاح مشاعر الإنسان فيصبح تائهاً بعيداً عن الطريق الذي رسمه له الله. فيرسل له من يعيده، ويستجيب لسكيب الدموع التي ذرفتها واحدة من بين أعظم الأمهات في ذلك العصر البعيد، ويعيده إلى أحضان الإيمان ليصير واحداً من بين أعظم القديسين، وليكون قدوة مثالية للشباب للبحث والتفكير والوصول إلى الحقيقة.
قدم فيلم “أغسطينوس ابن دموعها” نموذجاً يحتذى به من خلال قصة حياة القديس العظيم أغسطينوس.
حصل فيلم “أغسطينوس ابن دموعها” على جائزة الإنجاز الفني في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بمهرجان الأسكندرية السينمائي الدولي لدول حوض البحر الأبيض المتوسط في دورته الـ”33″، وهو أول عمل تاريخي عربي سينمائي مشترك بين مصر وتونس والجزائر، ويصنف من نوعية الإنتاج الضخم بالمعايير الدولية، بقيادة المخرج الدكتور سمير سيف.
حاز الفيلم على جائزة الجمهور لأحسن فيلم بمهرجان وهران السينمائي بالجزائر.
وصرح يوسف منصور المستشار التنفيذي للعملية الإنتاجية للفيلم، لـ”وطني”، أن الفيلم سيتم عرضه خلال شهر مارس لأول مرة للجمهور بقاعة النيل في مهرجان المركز الكاثوليكي ويعقب العرض ندوة حول الفيلم.
وقد اُقيم العرض الخاص والأول للفيلم بمسرح الجمهورية بالقاهرة وبحضور جماهيري عريض ولفيف من الشخصيات المعروفة، من بينهم السفراء الأمريكي والتونسي وسفير شيلي وسفير أسبانيا.
كما حضر كل من محافظ الفيوم والمستشار عدلي حسين، والمستشار أمير رمزي، ومنى مكرم عبيد، والكاتبة ليلى تكلا، ومن الفنانين هاني رمزي، وأحمد فؤاد سليم، وميرال، والمخرج رضا شوقي نائب رئيس القناة الثانية، ومن بين فريق العمل الفني عائشة بن أحمد وعماد دبور وهنري عون وسامح سامي والمستشار التنفيذي يوسف منصور، والمخرج سمير سيف.
بدأ العرض الخاص لفيلم أغسطينوس بعزف السلام الجمهوري، أعقبه كلمة المخرج سمير سيف.
وقبل عرض الفيلم قامت بإحياء الاحتفالية السبرانو الواعدة داليا فريد، حيث ترنمت ببعض الأغنيات بعدة لغات ثم اختتمتها بترنيمة معبرة لمزمور “ارحمني يالله كعظيم رحمتك” باللغة العربية.
يَحكي الفيلم لمحات من حياة القديس التائب أغسطينوس، حيث يحمل عبر أحداثه فلسفة إنسانية لشخصية قديس وفيلسوف أثرى الحياة الروحية والإنسانية وترك تراثاً بالغ الثراء من البيان والفصاحة والفلسفة والفكر والروحانيات والإنسانيات، ويعالج فكرة أهمية التراجع القيمي والفكري والمجتمعي ليصل الإنسان إلى الاستنارة ووضوح الرؤية.
يصور الفيلم مرحلة من حياة القديس أغسطينوس كمفكر نوميدي، والذي ولد في 13 نوفمبر عام 354 م، من أصل أمازيجي وهو من مواليد شمال أفريقيا في مدينة تاجست التابعة لمملكة نوميديا الأمازيجية والتي كانت بدورها تابعة للإمبراطورية الرومانية، (حالياً سوق اهراس بالجزائر).
وكان أغسطينوس ووالداه ذوي ثقافة رومانية ويتحدثون اللاتينية، حيث كان أبوه باتريسيوس أوريليوس وثنياً من أصل روماني وفي نهاية حياته آمن برب المجد يسوع المسيح. أما أمه القديسة مونيكا فقد كانت أمازيجية مسيحية.
وأكمل أغسطينوس تعليمه في قرطاج بتونس، وهناك اتبع الديانة المانوية وكان من أهم المدافعين عنها ضد الديانة المسيحية، قبل عودته للإيمان بالمسيحية من خلال صلوات والدته ودموعها.
مرت حياة القديس أغسطينوس بعدة مراحل تباينت بين التمرد والشر والحيرة والبحث عن الحقيقة لدرجة ارتمائه في أحضان هرطقة بدعة ماني التي مزجت بعض أفكار المسيحية مع عدة فلسفات مغايرة.
ولكنه عاد بقوة وقداسة إلى الحياة الحقيقية والإيمان المسيحي الصادق القوي مقدماً مثالاً يحتذى به للتوبة الصادقة.
*عرض الفيلم
بدأ الفيلم بأحداث الشخصيات المعاصرة من خلال عرض مشاهد واقعية من فيلم وثائقي للرئيس بوتفليقة الجزائري وهو يلقي خطاباً هاماً عن أغسطينوس أثناء تدشين كاتدرائية أغسطينوس بعد ترميمها.
ومن خلال خطين دراميين متوازيين يصور الفيلم قصتين مختلفتين يجمعهما فكر مشترك، حيث تتنقل رحلة القصتين بين الجزء المعاصر الذي تدور أحداثه في العصر الحالي، ويجسد حياة مخرج الأفلام الوثائقية الجزائري المكلف بعمل فيلم عن حياة أغسطينوس، وعلى التوازي يجسد الفيلم من خلال الخط الدرامي الثاني الجزء التاريخي الذي شهد الحراك الديني التاريخي لبلاد قرطاج ونوميديا بين الديانات التي اشتهرت في ذلك العصر البعيد وهي الوثنية والمانوية والمسيحية.
قدم الفيلم انعكاساً لعمق الحياة الأكاديمية والسياسية لقرطاج ولكل بلاد نوميديا، كما لو كان انعكاساً لصورة مصغرة للمجتمع النوميدي الروماني بتقاليده العريقة، وكذلك حاول إبراز أهمية دور المرأة النوميدية قديماً في الحياة اليومية مثل القديسة مونيكا أم القديس أغسطينوس (وجسدت دورها بقوة عائشة بن أحمد)، بالإضافة إلى دور التعليم بالمدْرسة ومدى تعلق أهل نوميديا بالعلم والثقافة والمدرسة، كأدوات بالغة الأهمية وتساهم في الارتقاء الاجتماعي.
*قرار التغيير في مفترق الطرق
تناول الفيلم الجزء الأول من حياة أغسطينوس حتى إيمانه ومعموديته (والذي جسد دوره الفنان المبدع أحمد أمين بن سعد)، من خلال قصة مخرج جزائري للأفلام الوثائقية يتبع إحدى القنوات الفرنسية (والذي جسد دوره عماد بن شيني)، وتربطه علاقة بفتاة فرنسية – تونسية تتمتع باسقلالية وحرية الرأي، ويظهر انعكاسها على التوازي خلال أحداث الفيلم مع صديقة أغسطينوس وأم ابنه الوحيد أديوديتاس والتي لا تملك أي حرية للتعبير عن مشاعرها أو رأيها، (وجسدت دورها بتميز ساندرا شهاوي)، في مقارنة ظاهرة مع الفتاة المعاصرة ذات الإرادة الحرة والتي تدافع عن حقوقها ومشاعرها ومساواتها بكل قوتها (وجسدت دورها بإجادة نجلاء بن عبد الله). ومع أحداث الفيلم يكتشف هذا المخرج أثناء دراسته للوثائق التي تدون حياة القديس أغسطينوس بأن حياته تتشابه إلى حد بعيد وحياة أغسطينوس فهو يبحث عن الحقيقة ولديه نفس المشاكل الحياتية الخاصة ويقف في مفترق طرق ويحتاج بشدة إلى اتخاذ قرار مصيري جريء يغير مجمل حياته مثل أغسطينوس.
وعندما تلامس القديس أغسطينوس مع الحقيقة في لحظة فارقة اتخذ بقوة وشجاعة قراره الجريء بالتوبة، وكذلك المخرج الوثائقي، عندما وضع يده على جرأة أغسطينوس وشجاعته في اتخاذ قراره المصيري، اتخذ هو أيضاً قراره بشجاعة بالزواج من أم ابنه وتصحيح الأوضاع الخاطئة.
*لغة سينمائية بالغة الرقي
المحررة مع أبطال ونجوم أغسطينوس: المخرج د. سمير سيف والفنانتين نجلاء بن عبد الله وعائشة بن أحمد
انسابت أحداث الفيلم لتجمع عدة لغات حية ما بين الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والعربية وقد امتزجت ببعض اللهجات الحياتية اليومية ما بين المصرية والتونسية والجزائرية، والتي تدفع بالمشاهد لأن يشعر بأنه يعيش أحداث تلك الحقبة الزمنية البعيدة، حيث حرص سمير سيف على تصوير الأحداث في أماكنها الحقيقية حفاظاً على التأريخ الزماني والمكاني فتنقل التصوير بين فرنسا وعنابة (بالجزائر) وقرطاج (بتونس) وميلانو وروما (بإيطاليا).. واستغرق الإعداد للفيلم وتصويره ما يقرب من ثلاث سنوات.
صاحب الفيلم ترجمة باللغتين العربية والإنجليزية خلال عرضه الخاص خاصة في المشاهد الناطقة باللغة الفرنسية أو الإنجليزية أو اللهجات التونسية والجزائرية، نظراً لاختلافها في النطق عن اللهجة المصرية.
*”وطني” مع صناع وأبطال الفيلم:
صرحت الفنانة التونسية عائشة بن أحمد، لـ”وطني”: بأنها لم تخشَ القيام بدور مونيكا أم أغسطينوس بالرغم من أنها لاتزال في ريعان الشباب، لأنها أحبت الشخصية كثيراً، وكانت تؤديها بصدق، ثم أضافت في مرح ضاحكة بأنه لا بأس من قيامها بتمثيل دور عجوز لأن هذا ما سيحدث لها ذات يوم.
أما عن عوامل الجذب التي شدتها إلى شخصية مونيكا، فقالت إن بها تناقض فبرغم طيبتها وحنانها وضعفها ودموعها إلا أنها قوية جداً ولديها إصرار غير عادي للوصول إلى هدفها، ثم أضافت:”وأنا بطبيعتي أحب الشخصيات التاريخية والقديسة مونيكا شخصية جميلة قوي فأحببت أن أؤديها”.
وأوضحت أنها كانت المرة الأولى التي شاهدت نفسي فيها وهي عجوز، ولكنها بعد ذلك وجدت متعة كبيرة في أداء الشخصي.
أما يوسف منصور مدير مركز الإبراهيمية للإعلام والمستشار التنفيذي للعملية الإنتاجية للفيلم، حول الظروف الإنتاجية قال لـ”لوطني”: “يد بمفردها لا تصفق”.. هذا هو المثل المصري الذي تحقق في إنتاج فيلم أغسطينوس.
لقد جمعت الشراكة بين مصر والجزائر وتونس، عمل عظيم يؤرخ في تاريخ السينما المصرية وستذكره الأجيال القادمة لنستمتع بسيمفونية رائعة من التعاون وإنكار الذات ليخرج هذا العمل إلى النور.
وقد استغرق إنتاجه ثلاث سنوات من التحضير وكتابة السيناريو والتنفيذ. وهو فيلم يصعب تصنيفه وهل هو من الأفلام الدرامية أم الاجتماعية؟ أم التعليمية أم الوثائقية فهو يجمع بينها جميعاً”.
وأضاف “منصور”: “إن أغسطينوس ربما لم يصنع معجزات، لكنني أعتبر أن خروج هذا الفيلم في حد ذاته هو معجزة صنعها أغسطينوس”.
وقال خالد هويسه، لـ”وطني”، الذي لعب دور إليبيوس صديق أغسطينوس منذ الطفولة وعاش معه معظم فترات حياته وكان أكبر من أغسطينوس سناً وبالرغم من ذلك كان تلميذاً له: “شعرت بالمسئولية خاصة وأن هذا كان أول عمل لي باللغة العربية الفصحي والتي لها طقوسها ومن المهم جداً إتقانها”.
أما بطل الفيلم الفنان المبدع أحمد أمين بن سعد الذي جسد بحرفية تصل إلى درجة المعايشة بالغة الصدق دور شخصية القديس أغسطينوس، فقال :”لقد جسدت دور القديس الفيلسوف أغسطينوس الشمال إفريقي التونسي الجزائري النوميدي الذي أثرت فلسفته في كامل العالم الغربي والفيلم يصور حياته إلى حدود لحظة تعميده يعني حدود لحظة إيمانه بالله، والفيلم يصور لحظات شعوره وتفكيره وكل متاعبه النفسية والذهنية وهو في طريقه الصعب إلى الله”.
المحررة مع أحمد أمين بن سعد ممثل دور أغسطينوس
وحول تساؤلات البعض بأنه اسمه أحمد في الوقت الذي يمثل فيه دور قديس مسيحي، قال:
“هذا لا يغير عندي شئ، فالذي يهمني هو الإنسان وكيف يفكر وما هي رهانات تفكيره سواء كان مسيحي أو مسلم أو غيره، فأغسطينوس مثال على تأثيرنا نحن الإنسان الشمال إفريقي في أوربا وفي الفلسفة الغربية”.
وعن علاقته بفريق العمل صرح أحمد بن سعد، بأنه لا ينكر أن الظروف كانت أكثر من رائعة خاصة وأن الفيلم خرج إلى النور بمجهود إنتاجى كبير جداً بين أكثر من دولة وأكثر من منتج، ثم أضاف: “لكن لم يكن لدينا وقت، فأحياناً كنت أقوم بتصوير ما يقرب من أربعة عشر مشهد في اليوم، لكننا كفريق عمل كنا يد واحدة من أجل وصول الفيلم للمستوى الذي نريده ونجاحه.
أما التعاون مع الدكتور سمير سيف فكان شئ رائع فهو يعرف شغلته بدقة، ربما لأنه قادم من السينما المصرية ذات الخبرة السينمائية العالية لأن السينما المصرية تعمل يومياً لكن هذا لا يتوافر لدينا في تونس والجزائر.
وحول الصعوبات التي واجهته أثناء أداء الشخصية، قال:
“الشخصية في حد ذاتها صعوبة كبيرة، شعرت في البداية بالخوف، فالدور مربك لأن الشخصية قوية جداً كادت أن تتسبب لي فى اضطرابات نفسية في لحظات التصوير وغيره”.. وعن أصعب مشهد قام بأدائه استرجع بن سعد لحظات المشهد وقال بارتباك صادق: “مشهد التعميد.. فلم أكن أعرف من الذي يقومون بتعميده هل أنا؟.. أم هو؟؟”..
*الموسيقى التصويرية
لعبت الموسيقى التصويرية التي أبدعها الموسيقار سليم دادة دوراً بارزاً في انسيابية الأحداث الدرامية وجاءت معبرة عن الأحداث المعاصرة والتاريخية بصورة بارعة نقلتنا بشاعريتها في بعض المشاهد وأثارت قلقنا.
كما أسعدتنا في مشاهد أخرى، فكانت موسيقى ساحرة تجمع بين القديم والحديث.. وتتناسب مع رتم الفيلم وأحداثه المتلاحقة. موسيقى تواكب الأحداث تهدأ في مشاهد وتثور في مشاهد أخرى كموج البحر.. وتشعرك بالقلق في بعض الأحداث.. ثم تتمايل لتجلب السعادة والبهجة في مشاهد مفرحة.. دعمها فس ذلك الاختيار المدهش لأماكن التصوير والكادرات المبتكرة للمخرج سمير سيف والذي نجح ببراعة في المزج بين المعاصرة وسحر الشرق وعبق الزمن القديم بكل جمالياته.
أجاد كل من عماد دبور مؤلف القصة، وهنري. ج. عون صاحب الرؤية لقصة الفيلم، وسامح سامي كاتب السيناريو والحوار. إلا أن هناك علامة استفهام حول عدم ذكر أن المرجع الرئيسي لقصة الفيلم هو الكتاب الأكثر شهرة ومبيعاً “اعترافات أغسطينوس”، والذي وضعه القديس أغسطينوس بنفسه حيث تحدث خلاله بكل أمانة عن سيرته الذاتية.
وعلق يوسف منصور على هذا الاستفسار، بأن هناك مبررات درامية مثل إضافة اسم أم ابن أغسطينوس في الأحداث، في حين أن كتاب الاعترافات لم يذكر فيه اسمها.. وهكذا.
وأضاف: هناك ملاحظة طقسية ضرورية وهي أن المعمودية كان من المفترض أن تكون بالتغطيس وليس بصب الماء فوق الرأس، وذلك كحسب الطقس الكنسي والشواهد الكتابية، حيث ورد في إنجيل القديس متى: “فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء…”(متى 3: 16، ومرقس 1: 10، وأعمال الرسل 8: 38، 39)، كما ورد في رسائل القديس بولس الرسول: “فدُفنا معه بالمعمودية…”(رومية 6: 4)..
*فيلم درامي وثائقي برؤية معاصرة
اختلف فيلم “أغسطينوس ابن دموعها” عن باقي أفلام سمير سيف من حيث اختلاف رتم الفيلم وحركته وفلسفته والتي منحت الثراء لمجمل الفيلم.
تكريم فريق العمل فى العرض الخاص بدار الأوبرا بالأسكندرية
وقد تمكن “سيف” من العزف على سيمفونية العالمية ببراعة وحرفية بالغة العمق والرقي ليقدم لنا فيلم “أغسطينوس.. ابن دموعها”.
وقد استخدم المتألق سمير سيف لغة الألوان وأماكن التصوير لإبراز الذوق الراقي للمجتمع النوميدي وحبه للجمال وللفن بكل صوره، وقد تمثل ذلك في المشاهد الممتزجة بالموسيقى والزينة والحُلي والزخارف وحركة الممثلين، والتشكيل الجمالي للمشاهد كما لو كانت لوحات فنية من العصور البعيدة عبر زمان الأحداث وأماكنها فأعطت ثراء بصري ولوني بارع الجمال، تناغم مع الأحداث وعبّقها برائحة الزمن الجميل.
*المخرج سمير سيف لـ”وطني”:
قال “تناول الفيلم الشق الأول من حياة الشخصية العظيمة أغسطينوس.. وأنا اعتبره ذو أهمية بالغة الخصوصية بالنسبة لي فهو بحق علامة فارقة في مسيرته الفنية.. وكان حلماً أن تشارك أربع دول عربية في هذا الفيلم بأكبر قدر من التآخي والتعاون”.
كانت هناك علامة استفهام حول تحول الدكتور سيف من أفلام الأكشن (الحركة) التي اشتهر بها.. ليخرج فيلم أغسطينوس بلمسة رومانسية منذ اللحظات الأول للفيلم، فأجاب:
“نظرتي للأكشن ليست فقط مطاردات وضرب، ولكن ينبغي أن يكون ذلك مرتبطاً بالمغزى الإنساني والتحليل الاجتماعي والفكرة الإنسانية. وتبعاً لذلك لا يشترط أن يكون الزعيم أو البطل السينمائي يمتلك أدوات بدنية وعضلات، لكن يواجه مشاكله بالفكر، وقد استخدم أغسطينوس فكره وعقله وإيمانه للبحث عن الحقيقة ليصبح الفيلسوف والمفكر الذي نعرفه اليوم. حيث يحكي الفيلم قصة تحول سلوك وفكر الفيلسوف من خلال مثابرة والدته وصلواتها لأجله وبحثه.. حتى وصل إلى الحقيقة التي يبحث عنها هذا الفيلسوف العظيم.”.
ثم أضاف سمير سيف: كان من بين أهداف الفيلم التأكيد على أنه في ظل الصراع الحضاري المنتشر على الساحة العالمية.. وفي الوقت الذي صنف فيه الغرب إفريقيا كقارة من العالم الثالث تبزغ فكرة أن افريقيا كانت أحد منابع الثقافة والفكر وقد خرج منها عظماء وباحثين ومفكرين وفلاسفة مثل الفيلسوف الرائع أغسطينوس، مما يساهم في تدعيم ثقتنا بالنفس كشرقيين”.
*ملامح الصراع الأزلي في الفيلم
قدم الفيلم ملامح من الصراع الأزلي بين الخير والشر من خلال إظهار تناقضات الحياة. كما تضمن الفيلم عدداً من المشاهد الصعبة من بينها مشهد خطبة وعظة القديس أمبروسيوس أسقف ميلانو، والذي احتوى على جمل عميقة وطويلة.. إلا أن المخرج سيف وكذلك الممثل على بن نور (الذي جسد دور أمبروسيوس) نجح كلاهما في التحدي وتجنب الملل وتقديمه بصورة جيدة رغم طول المشهد.
قد شارك فى مجمل هذا العمل الفني الضخم أكثر من 500 شخص.. بقيادة المخرج سمير سيف.
وحول إذا ما كانت هناك صعوبات في التعامل مع فريق عمل ضخم بالإضافة إلى كونه من مختلف الجنسيات واللهجات؟.. إجاب :”السينما لغة عالمية فكلنا نستخدم نفس المصطلحات، وخلال فترة قصيرة اندمج الجميع وأصبحنا نشكل عائلة واحدة، وأعتقد بأن هذا الانصهار وهذه العاطفة ظهرت خلال أحداث الفيلم”.
*رؤية تحليلية
يعتبر مشهد توبة ثم معمودية أغسطينوس من أجمل وأقوى وأصعب مشاهد الفيلم وأكثرها تأثيراً سواء من زاوية الرؤية الإخراجية أو من الأداء التمثيلي الراقي، حيث نجح سمير سيف في استخراج أروع المشاعر من أعماق أحمد بن سعد، خاصة وسط الأمطار وقد ظهر ذلك في إحساسه البالغ الصدق، وهو يصرخ إلى الله قائلاً: “تأخرت كثيراً في حبك ياربي.. قد كنت دائماً معي لكنني لشقاوتي لم أكن معك”. وكذلك في ظهور مشاعره الداخلية مفعمة بالارتباك والتشويش والحيرة والشجن، وانسكاب دموعه في تلك المشاهد كانت حقيقية كما لو كان قلبه هو الذي يذرفها.. وكأنها توبة حقيقية، خاصة عندما احتضنه القديس أمبروسيوس.
ظهرت بصمات المخرج كعلامة مميزة في الثراء والتنوع في مجمل لقطات الفيلم ومشاهده.
نجح ببراعة كل من أحمد أمين بن سعد في تجسيد تطور شخصية أغسطينوس عبر مراحلها العمرية والفكرية والإنسانية المتباينة، وكذلك عائشة بن أحمد في دور القديسة مونيكا، وعماد بن شينى في دور هادي مخرج الأفلام الوثائقية، ونجلاء بن عبد الله في دور كنزه التي سيتزوجها هادي بنهاية الفيلم، والجميلة ساندرا شيهاوي بأدائها البالغ الرقة في دور أم ابن أغسطينوس، وعلي بن نور في دور الأسقف إمبروسيوس، ونجلاء الراشدي في دور والدة هادي مخرج الوثائق، وخالد هويسه في دور إليبيوس، وأيضاً الممثل الذي قام بأداء دور باتريشيوس والد أغسطينوس، بالإضافة إلى كل الممثلين المشاركين في العمل كل في دوره كان على مستوى بالغ الرقي وكان الاختيار لكل منهم موفقاً من قبل المخرج ذو الرؤية الصائبة حتى في اختيار الأدوار المتناهية الصغير والثانوية.
كذلك جسد ديكور توفيق الباهي بحرفية الأماكن التي عاشت فيها شخصيات الفيلم بمستوياتها الحضارية والثقافية ورموزها في زمن جميل تميز بإشعاعاته الثقافية والحضارية والإنسانية.
وبالرغم من أن السيناريو الجيد الذي كتبه سامح سامي كانت بعض أحداثه ينقصها التمهيد قبل المشاهد، إلا أن المبدع سمير سيف كعادته عالج ذلك ببراعة وتميز وكانت نقلاته مبتكره وتؤدي إلى مفارقات متنوعة ومتميزة مثل المشهد الذي يقرع فيه مخرج الوثائق باب محبوبته في عودة غير منتظرة ليطلبها للزواج بعد أن كانت قد يأست من ذلك، فينتقل بنا المشهد على القديسة مونيكا وهي تفتح الباب لأغسطينوس بعد عودته للإيمان.. ليُظهر بأن مخرج الوثائق قد عاد إلى الطريق الصحيح وأخذ القرار الصواب قرار تغيير اتجاه حياته.. تماماً مثل أغسطينوس وكأنه متمثلاً به. وكذلك ربط المخرج بين مشهد ولادة أغسطينوس الجديدة بالمعمودية ونهاية سيرته المحددة حسب سياق السيناريو، وبين زفاف مخرج الفيلم الوثائقس كبداية مبهجة لحياته الجديدة.
والفيلم من إنتاج عبد العزيز بن ملوكة CTV ، وعماد دبور Light House ، بدعم من وزارتي الثقافة التونسية والجزائرية.
فريق العمل بعد حصوله على جائزة أفضل إنجاز فنى
وهذا ما يدفعنا للتساؤل.. هل نحلم بأن يأتى الوقت الذى تشارك فيه وزارة الثقافة المصرية بإنتاج أفلام عن قديسين مسيحيين عظماء أنجبتهم مصر وساهموا في إثراء الحياة الإنسانية بفكرهم وثقافتهم؟؟
الفيلم رسالة لكل أم وأب أن لا يصاب باليأس من إصلاح الأبناء، بل يسعى بالفكر والصلاة من أجلهم ليصلوا إلى بر الأمان ويتلامسوا مع المحبة الإلهية الرائعة. بالإضافة إلى عامل مهم جداً فس الحياة الإنسانية وقادر أن يغير توجه الفرد ومجمل حياته، وهو غياب القدوة أو وجود القدوة السيئة التس تفرز عن شخصيات فظة غير سوية حيث قدم الفيلم حياة الأب فس بدايتها كنموذج يشكل خطورة فس الاحتذاء به، وكذلك نموذج لشخصية أغسطينوس الذي أدت أحداث حياته وتحوله إلى الإيمان الحقيقي وتوبته إلى انبهار مخرج الوثائق بهذه الشخصية الثرية وتأثره بها ثم إلى قيادته للعودة إلى الطريق الصحيح، حيث قرر هذا المخرج اختيار تصحيح وتغيير اتجاه حياته إلى الصواب. ورسالة أخرى هائلة في معانيها وهي ضرورة الانفتاح على الآخر باستناره، وقبوله بكل ثقافاته وأفكاره واحترامه رغم اختلافه عنا أو معنا.
نجح سمير سيف في ترجمة حياة أغسطينوس من خلال مشاهد إبداعية حية تنقل المتلقى إلى مكان وزمان ذلك العصر البعيد المتشبع بالثقافة والفلسفة والبيان والفصاحة. فجعل من إبداعه طرح لتساؤلنا:
“هل بإمكان الفن الراقى أن يساهم فى توحيد شعوب العالم؟”
مشهد للقديس أغسطينوس أثناء الحصار الرومانى للكنيسة
إضافة تعليق جديد